لاشك أن الدنيا دار بلاء واختبار، وأن الله سبحانه وتعالى خلق الموت والحياة ليبلونا أينا أحسن عملاً، وخير مرداً، وأفضل كسباً.
وأن الله يبتلي عباده الصالحين والطالحين، الصالحين ليرفع درجتهم ويعلي منزلتهم، والطالحين ليطهرهم ويكفر سيئاتهم، بل إن ابتلاءه لعباده المخلصين ورسله المقربين أشد: "أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل"، بل لقد جعل الله تجلت حكمته بلاءه في بعض الأحيان علامة من علامات حبه وإصطفائه، فعن أنس رضي الله عنه يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله إذا أحب قوماً، ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط"
فالمؤمن أمره كله خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، وليس هذا إلا للمؤمن كما أخبر الصادق المصدوق، ومن أركان الإيمان التي لا يتم إيمان العبد ولا يكتمل إلاَ بها الإيمان بقضاء الله وقدره، خيره وشره، حلوه ومره.
فمن علامات الإيمان، ومؤشرات الصدق واليقين، التسليم للقضاء، والرضا بالنازلة، وعدم التضجر والتسخط إذا أصاب الإنسان ما يخالف الهوى ، ولهذا قال الله عز وجل: "كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم"
صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن تمني الموت: "لا يتمنينَّ أحدُكم الموتَ لضرٍّ نزل به، فإن كان لابد فاعلاً فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي"
وخرج أحمد بسنده عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تتمنوا الموت، فإن هول المطلع شديد، وإن من السعادة أن يطول عمر العبد ويرزقه الله الإنابة".
وصح كذلك أن بعض الأخيار من الأنبياء، والمرسلين، والصحابة، والسلف الصالحين من هذه الأمة ومن السابقين تمنوا الموت وسألوه، منهم يوسف عليه السلام حين قال: "توفني مسلماً وألحقني بالصالحين"، ومنهم عمر، وعلي، ومعاذ، وأبو الدرداء رضي الله عنهم.
فدل ذلك على أنه هناك حالات يحرم فيها تمني الموت وحالات يجوز فيها تمنيه، توفيقاً بين الأحاديث والآثار، سيما وقد تمنى الموت من أمرنا بالاقتداء بهم كعمر رضي الله عنه، وما أدراك ما عمر؟!
فمتى يحرم تمني الموت؟ ومتى يجوز تمنيه؟
يحرم تمني الموت في الحالات الآتية:
يحرم على المسلم تمني الموت لضر دنيوي نزل به، في نفسه، أوولده، أوماله، وهذا هو الذي عناه الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به".
قال ابن رجب الحنبلي رحمه الله: (فتمني الموت يقع على وجوه، منها تمنيه لضر دنيوي ينزل بالعبد، فينهى حينئذٍ عن تمني الموت، ووجه كراهيته في هذه الحال أن المتمني للموت لضر نزل به إنما يتمناه تعجيلاً للاستراحة من ضره، وهو لا يدري إلى ما يصير بعد الموت، فلعله يصير إلى ضرٍ أعظم من ضره، فيكون كالمستجير من الرمضاء بالنار، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنما يستريح من غفر له".
يجوز تمني الموت في الحالات الآتية
1. إذا اشترط أن يكون الموت خيراً له كما جاء في الحديث السابق.
2. إذا خاف الفتنة في الدين.
3. عند حضور أسباب الشهادة.
4. لمن وثق عمله وأشتاق لقاء ربه.
الأدلة على جواز تمني الموت في الحالات السابقة
أولاً:إذا خاف الفتنة في الدين
1. ما حكاه الله على لسان سحرة فرعون: "قالوا ربنا أفرغ علينا صبراً وتوفنا مسلمين"
2. وما حكاه الله على لسان مريم عندما اتهمت بالفاحشة: "يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً ، وذلك عندما قالوا لها: "يا مريم لقد جئت شيئاً فريا* يا أخت هرون ما كان أبوك إمرء سوءٍ وما كانت أمك بغياً" ، لأنها لم تكن ذات زوج.
3. وقال عمر: "اللهم انتشرت رعيتي، وكبرت سني، وضعف جسمي، فأقبضني إليك غير مفتون".
4. وقال علي رضي الله عنه في آخر خلافته عندما رأى أن الأمور لا تجتمع له، ولا يزداد الأمر إلاّ شدة: "اللهم خذني إليك، فقد سئمتهم وسئموني".
5. وكذلك قال البخاري رحمه الله لما وقعت الفتنة بينه وبين أمير خرسان وجرى فيها ما جرى، قال: "اللهم توفني إليك".
6. وفي الحديث الصحيح: "أن الرجل ليمر بالقبر ـ في زمان فتنة الدجال ـ فيقول: "يا ليتني كنت مكانك".
7. وفي حديث معاذ: "فإذا أردت فتنة فاقبضني إليك غير مفتون"
8. وفي حديث عمار يرفعه: "أسألك لذة النظر إلى وجهك، وشوقاً إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة".
ثانيا: عند حضور أسباب الشهادة
إذا التقى الصفان وحضرت أسباب الشهادة جاز تمني الموت حينئذٍ، كما فعل عبد الله بن جحش، وعبد الله بن رواحة، والبراء بن مالك، وغيرهم.
روى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كم من ضعيف متضعف ذي طمرين، لو أقسم على الله لأبرَّة، وأن البراء بن مالك لقى زحفاً من المشركين، فقال له المسلمون: أقسِم على ربك؛ فقال: أقسمتُ عليك يا رب لما منحتنا أكتافهم؛ فمنحهم أكتافهم، ثم التقوا مرة أخرى فقالوا: أقسم على ربك؛ فقال: أقسمت عليك يا رب لما منحتنا أكتافهم، وألحقني بنبيك؛ فمنحوا أكتافهم، وقتل البراء.
وروي إن عبد الله بن جحش رضي الله عنه قال يوم أحد: يارب إذا لقيت العدو غداً، فلقني رجلاً شديداً بأسه، شديداً حرده، أقاتله فيك ويقتلني، ثم يأخذني فيجدع أنفي وأذني، فإذا لقيتك غداً، قلت: ياعبد الله، من جدع أنفك وأذنك؟ فأقول: فيك وفي رسولك؛ فتقول: صدقتَ؛ قال سعد بن أبي الوقاص: فلقد رأيته آخر النهار، وإن أنفه وأذنه لمعلقتان في خيط".
ثالثاً: لمن وثق بعمله واشتاق لقاء ربه
1. في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند احتضاره جعل يرفع اصبعه عند الموت ويقول: "اللهم في الرفيق الأعلى ثلاثاً".
2. وسأل معاذ بن جبل الشهادة له ولآل بيته عندما نزل الطاعون بعِمْواس.
3. قال أبو الدرداء رضي الله عنه: أحب الموت اشتياقاً إلى لقاء ربي عزوجل.
4. وقال أبو عنبسة الخولاني: كان من قبلكم لقاء الله أحب إليه من الشهد.
قال ابن رجب الحنبلي رحمه الله: (وقد دل على جواز ذلك قول الله عز وجل: "قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين"، وقوله: "قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء الله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين"، فدل ذلك على أن أولياء الله لا يكرهون الموت بل يتمنونه، ثم أخبر أنهم "لا يتمنونه أبداً بما قدمت أيديهم"، فدل إنما يكره الموت من له ذنوب يخاف القدوم عليها، كما قال بعض السلف: ما يكره الموت إلا مريب)
والله أسأل أن يطيبنا للموت ويطيبه لنا، في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة، وأن يجعل خير أعمالنا خواتمها، وخيرأعمارنا أواخرها، وخيرأيامنا يوم لقائه، وصلى الله وسلم وبارك على محمد وآله وصحبه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين